«آباء أشرار» في الأدب

الثلاثاء 28 تشرين الأول 2014
fathers-literature

لا أدري أين قرأت ما مفاده أن كل إنسان يظن وضعه استثنائيَّا، مع أن التشابه بيننا يجعل حيواتنا نسخًا تكاد تكون متطابقة.

كنت لم أحسم أمر علاقتي بوالدي حتّى وقت قريب؛ أعني هل هذه العلاقة طبيعية أم مختلفة. إذ كنت أظنه في طفولتي عظيمًا من العظماء، وبينما كنت مراهقًا رأيته شيطانًا من من شياطين الإنس، وعندما كبرت قليلًا، علمت أنه كباقي البشر؛ فيه ما يحمد وفيه ما يُكره.

لكن مهما كان والدك سيئًا، أو بالأحرى؛ إن كان والدك بالسوء الذي يتصف به معظم الآباء، فإن الروايات الثلاث القادمة ستجعله في نظرك قدّيسًا، عملًا بالنظرية المصرية العظيمة: «مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق»، أو الحكمة القائلة: «من رآى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته».

سي السيد

يرى العديد من قرّاء نجيب محفوظ الأوفياء أن ثلاثيّته القاهرية هي أفضل ما كتب، وكذلك أظن؛ فلغة الرواية عظيمة وشائقة، وشخصياتها حيكت بتمهل صانع سجاد إيرانيّ، فضلًا عن قدرة محفوظ العجيبة على توثيق المجتمع القاهري في الفترة التي تتحدث عنها الرواية.

شخصيّة الرواية الرئيسة والتي هي موضوع حديثي، شخصية السيد أحمد عبد الجواد، الأب ذو الشخصيتين اللتين رآى العالم فيهما تناقضًا واضحًا، لكنه رآهما حقًّا من حقوقه، وكأنّه يطبق مقولة بودلير «إن من الحقوق التي لا يتحدث عنها أحد، الحق في التناقض»، وشخصية السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثيّة شخصية ممتعة، لكنك لا بد وأن تشعر بكراهيتها بعد قراءة عدد من الصفحات، أو أن تلاحظ شبهًا بين والدك والسيد، الشخصية المتناقضة المدّعية للتقوى في المساحة العامة، المكرهة لأهلها ولمن حولها على السلوك المحافظ والعيش في الخوف من كلام الناس. الشخصية التي لا أرى أن من الظلم وصفها بالمتهتّكة خلف الأبواب المغلقة.

يقول الكاتب السعودي أحمد الحناكي واصفًا الشخصية الأخرى لبطل الثلاثية أحمد عبد الجواد: «المفارقة أو الشخصية الأخرى الخفيّة أو السريّة، هي تلك التي تظهر مع أصدقاء العمر، وهم ثلاثة أو أربعة يجتمع معهم سويًا في أحد الشاليهات في الليل، ويتحول هؤلاء إلى فرقة فنية من غناء ورقص وممارسات مخلّة، وتتحول الشخصية المتجهمة الجدية الملتزمة إلى أخرى معاكسة تمامًا، فالضحك من الأعماق، واللطافة في ذروتها، والعواطف ملتهبة حتى آخرها، وعندما ينتهي الحفل يتقمص مرة أخرى دور الجاد المحافظ، ويتجه إلى منزله».

ما يمارسه عبد الجواد يشكّل نموذجًا موجودًا في العالم العربي، وإن كان قد طرأ على المنوذج بعض التغيرات فسببها اختلاف الأجيال وتقلب الزمان.

ربما يكون السيد عبد الجواد هو المصدر الذي أخذنا عنه عبارة «سي السيد»، الرجل الذي يرى في نفسه مركز الكون، وكل ما فيه تبع له. السيد عبد الجواد ربما يكون الملهم لشخصية الأب في أذهان الكثير من آباء القرن العشرين، خاصة أولئك الذين عاشوا انكسارات عسكرية أودت بما تبقى لديهم من كرامة، فقرروا – على غير إرادة منهم، أن يستعيدوا ما سُلب منهم في ساحة المعركة، في غرف النوم مع الزوجات كمغتصبين، وفي فصول المدرسة مع الطلاب كسجانين، وفي البيوت كجلّادين.

فيودور كارامازوف

يصف عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد في مطلع مقال طويل له حول الكاتب الروسي دوستويفسكي، بأنها الرواية الأعظم على الإطلاق، إذ تتحدث عن عائلة كارامازوف. وإن كنّا قد وصفنا السيد عبد الجواد بالديكتاتور، فإنه من غير الجور وصف فيودور كارامازوف «الأب في الرواية» بالمختل، إذ يصف الأب نفسه في الرواية بالمهرج. حيث أن الصراع المباشر في الرواية يدور بين الأب فيودور كارامازوف وبين ابنه ديمتري، والسبب الرئيس لهذا الصراع هو وقوع الأب وابنه في حب فتاة فاتنة تدعى كراشونيكا. وخلال قراءتك للرواية سيكون من العسير للغاية أن تشعر بأي تعاطف مع الأب، حتى في تلك اللحظة التي يدوسه فيها أحد أبنائه.

خلال مضي الأحداث سنتعرف على شهوانية الأب ومجونه، وسنتعرف على ابنه سمردياكوف، الابن الذي يعامله الأب كخادم لا كابنه. وفي النهاية يقوم هذا الابن غير الشرعي بقتل والده، ولكم أن تتخيلوا كيف تكون سمات الأب الذي يدفع ابنه لقتله وإراحة العالم منه.

يقول دوستويفسكي في وصف الأب: «إنه ينتمي إلى ذلك النوع من الأفراد الشاذين، الذين يجمعون بين طبيعة رديئة سيئة منحطة، وبين قدر كبير من السخف. لقد كان مالكًا صغيرًا جدًا يعيش على موائد الناس، يأكل تارة عند هذا وتارة عند ذاك، ويحيا حياة إنسان طفيلي تمامًا، ولكن وجدت عنده حين مات ثروة ضخمة تبلغ مائة ألف روبل عدًّا ونقدًا». ويقول عنه في موضع آخر: «هذا الرجل لم يكن إلّا مهرّجًا شريرًا حقيرًا لا أكثر من ذلك».

محمد شكري

من الواجب على من ينشرون رواية الخبز الحافي لمحمد شكري أن يضعوا عددًا من التحذيرات على غلافها، فكميّة القهر التي سيعيشها المرء في النص، لن ينجح الأطباء النفسيون ولو اجتهدوا في تمكينك من التغلب عليها، وكمية الجوع التي ستشعر بها خلال القراءة مرعبة، والمشاهد التي ستراها وترافقك في أحلامك لم يتصورها هيتشكوك يومًا. وعن الطريقة الاعتيادية التي كان يتعامل فيها الأب مع ابنه يقول الراوي:

دخل أبي، وجدني أبكي على الخبز، أخذ يركلني ويلكمني:
أسكت، أسكت، أسكت، ستأكل قلب أمك يا ابن الزنا.
رفعني في الهواء وخبطني على الأرض، ركلني حتى تعبت رجلاه وتبلل سروالي.

ولو كان هذا أسوأ ما حدث لكفى به أن يسم حياة المؤلف القادمة بالبؤس والجنون، ولكن القادم أعظم، والمصائب لا تأتي فرادى، إذ أنه وفي أحد الأيام المقبلة، وفي لحظة جنون لم تكن على ما يبدو نادرة: «أخي يبكي. يتلوى ألمًا. يبكي الخبز. يصغرني. أبكي معه. أراه  يمشي إليه. الوحش يمشي إليه… الجنون في عينيه. يداه أخطبوط. لا أحد يقدر أن يمنعه. أستغيث في خيالي. وحش، مجنون، امنعوه، يلوي اللعين عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق من فمه».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية